Saturday, November 25, 2006

النظام و عالمنا المحدود

توقفت عن الكتابة عندما اصبح عالمي محدودا . فعندما يصبح عالمك محدودا تصبح ايضا رؤيتك للاشياء محدودة و تصبح خبراتك السابقة و إن كانت قويه ، صغيرة لا تكبر و لا تنمو.و إن ساكني ذلك العالم المحدود هم في الغالب أشخاص نمطيون غارقون في نمطيتهم ،يتحدثون كثيرا و يثرثرون أكثر و يعتقدون انهم عالمون ببواطن الامور وهم في حقيقة الأمر بلا رؤيه محددة المعالم وبلا فكرة واضحة في رؤسهم وبلا مواهب أو ملكات. و هؤلاء على الجمله ليس لهم أفاق جديدة يتطلعون إليها. فيكفي أن تعاشرهم شهرا واحدا لتكتشف كل أبعاد عالمهم لتفقد التواصل معهم بعدها وبالتالي تفقد التواصل مع نفسك فتتوقف عن الكتابة. فمن أين تأتي بالأفكار و الرؤى و القصص و الأخبار و المناقشات و المجادلات و الإختلافات و الإتفاقات التي تغذي بها قلمك المتعطش بإستمرار للتطور و النضج؟ إنه يأتي من العالم الذي تعيش فيه، فإن كان ذلك العالم راكدا ساكنا مسطحا و محدودا فسينعكس ذلك عليك شئت أم أبيت وإن كنت مشروع جان بول سارتر. سيسأل البعض و ماذا عن القراءه؟؟؟ القراءه بلا مشاهدة أو استماع او إحتكاك،كالنظرية بلا تطبيق. فإن اتساع مدارك الإنسان لا يتم بالكلمات المكتوبة فقط و لكن بالتأمل و الفرجه والمتابعه لكل ما يجري حولك و ما يجري بعيدا عنك.
عالمي المحدود عبارة عن تلك المستشفى الحكومي التي اعمل بها. زملائي هم حفنه من الاطباء الذين لا حديث لهم سوى عن سوء الظروف المعيشيه و المرتب الضئيل و المكافأة التي تتقلص شهرا بعد شهر. في بعض الاحيان يكون الحديث عن المستقبل المظلم الأسود الذي ينتظرنا و نحن ننتظر دورنا في طابور لانهائي حتى يأتي دورنا لتحضير الماجستير. نجتمع لكي نغتاب بعضنا البعض و نتشاجر حين نضع جدول النوبتجيات و نتصالح و نتكاتف حين يكون لنا مطلب جماعي عند البيه المدير و هذا نادر.نعيش في صراعات دائمه لا تتوقف مع بعضنا البعض و مع المرضى الذين لا يثقون بعلمنا ولا ضمائرنا، السنا نحن الزبانيه الذين نعمل عند الحكومه؟! فلماذا سيتوقع المريض أن نبتسم في وجهه او أن نعامله معاملة حسنة او أن نستمع الى شكواه بأذان صاغيه او أننا لن نبخل عليه بالإستشارة الصادقه و الدواء؟؟!! معه حق فهو يهان منذ أن يصحو الى أن ينام. يهان في المواصلات العامه ،يهان إذا دخل مصلحة حكوميه لقضاء حاجه ،يهان من البلطجيه و المفسدين و الشرطه و أمن الدولة .فلماذا يتوقع أن يكرمه الطبيب في المستشفى الحكومي؟؟؟!!! و الطبيب لا يخيب ظنه كثيرا. فكيف لشخص يعمل في بعض الأحيان لستة و ثلاثون ساعه يفحص خلالها اكثر من مائتين مريض أن يضبط نفسه و اعصابه و يحتفظ بإبتسامته ولا يتوقف عقله لحظة واحده عن تحليل مشاكل المرضى لكي يصل الى التشخيص؟؟ هم يرون اننا نهينهم و بلا ضمير و نحن نرى اننا منهكون و المسئوليه الملقاه على عاتقنا كبيرة و ثقيله و نعمل كالعبيد و لا نتاقاضى الاجر الذي نستحقه.المشكله ليست كلها في الأجر. فمثلا من مهام وظيفتي في النوبتجيه أن أكون طبيبة الإستقبال لإستقبال الحالات الحرجه و أن أكون طبيبة العياده الخارجيه و ان اقوم بالمرور على الحالات الحرجه بالعنابر و أن ا كون جاهزه إذا استدعتني الممرضه في اي وقت لإدراك حالة متعبه في العنبر هذا بالإضافه بأن اقوم بكتابة البيانات الطبيه في دفاتر المرضى الذين دخلوا للحجز في هذا اليوم بعد انقضاء ساعات العمل الرسميه.و المرضى كثر حتى ا نني في بعض الأحيان اشعر أن كل الناس في مصر قد مروا على في الإستقبال و العياده و العنابر.و بعد انقضاء النوبتجيه يكون قد اصابني انا و زملائي الإعياء و اصيبت عقولنا بالشلل التام.
و لهذا أصبح عالمي محدودا. لأنني اصاب بالإعياء من كثرة العمل و اصاب بالإحباط من عدم التقدير و اشعر بالخوف من هول المسئوليه. فنحن اولا و اخيرا مسئولون عن أرواح الآلاف البشر اعياهم الفقر و العوز و الجهل و نخر سوس المرض عظامهم اليابسه و هم لا حول لهم و لا قوة ينتظرون منا على الرغم من كل شيء أن نقوم بإنقاذهم.و بعد كل هذا من اين آتي بالوقت و المزاج و الصحه و المال لكي اخرج من ذلك العالم المنغلق على نفسه الى عالم أكثر إتساعا و شمولا استطيع فيه ان ارتاد المعارض و احضر الندوات و اشاهد الأفلام و المسرحيات و ان اتابع التطور التكنولوجي في العالم و أن أشارك بأفكاري على الأقل في التمرد على أشكال القهر و الظلم و أن انادي بالدمقراطيه و حرية التعبير. كان في الماضي بداخلي ذلك التمرد و لكنه تحول الأن الى تمرد صامت على التمريض المستهتر و رئيس القسم المستبد و المدير الذي يحاول أن يرضي جميع الأطراف.و اصبحت مشاكلي هي يوم النوبتجيه العصيب، و الحصول على موافقه لأخذ اجازة اعتيادي و تفادي الإمضاء في دفتر التأخير حتى لا يوقع على الجزاء فيعطلني عن تسجيل الماجستير فكيف اكتب؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ و ماذا أكتب؟؟؟؟؟؟؟؟ و متى اكتب؟؟؟؟؟؟
و انا يا ساده مجرد نموذج لملايين الناس الذين يعيشون في عالم محدود منغلق على نفسه. فطالب الثانويه العامه المصريه يعيش في عالم محدود منغلق عبارة عن الدروس الخصوصيه و محاولة التفوق تحت الضغط ليدخل كليه القمه و الكتاب المدرسي الساذج الذي لا ينمي القدرات الإبداعيه ولا اي قدرات اصلا و المدرسه الذي يذهب إليها كتحصيل حاصل.لا وقت عنده للقراءه ولا مكان عنده لممارسة الرياضه ولا اهتمام من احد لتحفيز قدراته الإبداعيه.فمثل هذا اذا اراد ان يكتب فكيف يكتب؟؟؟ و عن ماذا يكتب؟؟؟ و متى يكتب؟؟؟؟؟؟
و الموظف الحكومي عالمه محدود يقتصر على قراءه تصريحات الحكومه عن اهتمامها بمحدودي الدخل في الصحف القوميه و هو يحتسي كوب شاى على مكتبه ثم يفاجأ بغلاء الأسعار فيسب و يلعن ثم يفوض امره الى الله. و بعد ذلك يذهب الى البيت ليجد مشاكل لا حصر لها ، من الزوجه و الأبناء و طلبات المعيشه الصعبه التي لا تنتهي فيهرب الى القهوه ليجلس مع أصدقائه و يلعنون الحكومه و قله الحيله و يلقون النكات السياسيه و القبيحه ثم يرجعوا بيوتهم ليكرروا نفس اليوم غدا و بعد غد الى ان يحين الأجل و قد أعياهم التفكير في كيفية تدبير الميزانيه و الصرف على الدروس و توفير كسوة الشتاء و كسوة الصيف و ياميش رمضان و خروف العيد ايستطيع هذا ان يخرج من عالمه المحدود؟؟؟؟
و الشاب الذي تخرج من الجامعه الحكوميه ليكتشف ان شهادته شيء و متطلبات سوق العمل شيء اخر عالمه ايضا محدود يقتصر على محاولات لخلق فرصة عمل و ان كانت بمرتب ضئيل ولا تمت لدراسته الأصليه بصله وان كان متفائلا يحاول بناء نفسه لكي يتزوج بعد عشر سنوات على اقل تقديرهذا ان وجد بنت الحلال الي ترضى بظروفه الصعبه. و ان كان متشائما استسلم للأمر الواقع و اتجه الى الهروب منه لبعض الوقت بالبانجو والخمر والأغاني و الأفلام الهابطه و يلعن هو و اصدقائه الواسطه و المحسوبيه و طلاب الجامعات الخاصه الذين يفوزون بفرص العمل لإجادتهم الإنجليزيه و الكمبيوتر و إقتنائهم سيارة.فكيف نطلب من هذاالشاب ان يقرأ للملركيز دى صاد او ان يذهب لمشاهده فيلم اشاهين؟؟ أو ان يفكر في اللإنضمام لحزب و هو لا يعرف معنى الكلمه اصلا؟؟؟؟؟؟؟
لقد نجح النظام أن يجعلنا ننغلق على انفسنا ان يجعلنا نعيش في عالم محدود محاصر بسياج مشاكلنا و اعباءنا ان يطمس افكارنا و يشوش على رؤانا و يوئد مواهبنا. فهنيئا لك أيها النظام و هنيئا لنا بعالمنا المحدود